المنظمة العالمية للإبداع من أجل السَّلام/ لندن

عن التجارب الروائية الشبابية السورية

13-11-2025


13 

عن التجارب الروائية الشبابية السورية

بقلم نبيل سليمان

يتوقف القول هنا بسنّ الشباب عند الأربعين سنة. أما التحولات الكبرى في القرن الحادي والعشرين، فلعل ما نعيشه منها يغني عن تعدادها، وهي التحولات التي أسرع إليها ما يكاد أن يكون طوفاناً روائياً على يد جيل/ أجيال شابة وجديدة.

في سورية، ومنها أبدأ، حيث أربى عدد الروايات التي صدرت بعد المفصل التاريخي الأكبر عام 2011، على خمسمائة رواية، وأغلبها لأسماء شابة وجديدة.

يرسم واحد من هذا الجيل صورة قاتمة لهذا الطوفان، فيتحدث سومر شحادة (ولد عام 1989) عما يسميه (ورطة النص السوري) إذ صار عبارة عن بيان سياسي أو مرافعة في محكمة المستقبل، وبهذا اختفى ما هو فني وخالد تحت ما هو سياسي وطارئ. ويحدد شحادة ما يسميه واحدةً من سقطات الرواية السورية في الفترة الأخيرة، هي التعاطي مع النص الروائي على أنه وثيقة يحتم علينا إشهارها في وجه التاريخ، وهذا يحدث "بسبب إدراك كون الثورة السورية ربما لن تشغل سوى كلماتٍ قليلة في كتاب التاريخ المدرسي عن عصيان مسلح فاشل".

ربما يسارع أحد إلى التعداد: واحدة من سقطات الرواية السورية بعد 2011، وبالتالي ثمة غيرها، ثمة سقطات. لكن ذلك سيكون في حسباني مماحكة، أما الأساس فهو ما في نفثة كاتب شاب من ضيقٍ بطوفان روائي، يبدو أن زَبَده الذي سيذهب جفاء هو الغالب. وما أكثر ما كتبت عن هذا الطوفان راصداً ومحللاً ومحذراً من أذية السياسة للرواية، وحسبي أن أضرب مثلاً لذلك بقول الروائية ابتسام التريسي. إن الرواية في سوريا "قد تحولت خلال السنوات الماضية من عمر الثورة إلى مدونة شخصية لروائيين نبتوا كالفطر في دول الشتات وفي الداخل" (الجزيرة 14/8/2025). ومقابل هذا الموقف النقدي الصارم علت ما أسميها الجعجعة الثورية التي تتذرع بالثورة، وبأولوية السياسة في زمن الثورة، وبحق الشباب في التعبير. أما جوهر الجعجعة هنا فهو أن لا ضير من أن تكون كل هذه المزاودات على حساب الفن الروائي، فيستوي الجميل والقبيح بدعوى المعاناة، مما يعود بالرواية وبالثورة عقوداً إلى زمن الجدانوفية، ولكن بثوب بتعصرن.

في روايات من خلّفوا سن الشباب ما آذته السياسة أو أسقطته. وفي روايات الشباب، ومنها ما هو الرواية الأولى لصاحبها، ما لم ينزلق في المنزلق السياسي، فجاء إضافة متألقة إلى المشهد الروائي في ظل تحولات بالغة التعقيد والخطورة. وهنا أذكّر بباكورة سومر شحادة (حقول الذرة - 2017) التي تعلقت بما عاشته بخاصة مدينة اللاذقية وريفها في البداية السلمية للثورة، وفي الصراع المسلح السياسي والطائفي الذي أسرع إليها فتحولت إلى ما سميته (الزلزال). ويمكن القول إن روايات سومر شحادة التالية قد تخففت مما أثقل على الكثير سواها من حمولات الثورة / الزلزال. وحسبي أن أمثّل هنا بروايته (منازل الأمس - 2023) التي تبدأ بوفاة حافظ الأسد سنة 2000، فترسم فضاءها بين اللاذقية والشارقة، وترسم شخصياتها، وتنضّد أحداثها، برهافة. وإذا كانت سورية ستتهاوى من توريث الجمهورية إلى الثورة فالزلزال، فالحب الذي أشرق في حياة نسرين وكارم في الجامعة من شخصيات (منازل الأمس)، ومضى إلى الزواج والأسرة، تهاوى أيضاً. وبينما اندفع كارم قدماً في حياته في دبي، عادت نسرين محطمة إلى سورية المحطمة، تشكو أن لا مكان لها في سورية تعود إليه، وتشكو من أن سورية التي عرفتها تتلاشى يوماً بعد آخر، والجميع يفكر في الخروج حتى بعد خفوت صوت المعارك. وبعد عشر سنوات من الحرب، ما عاد للناس ما يسعدهم في أعماقهم. ونقرأ لنسرين: "بلدي كان يتساقط ويتفكك في العراء، وكنت أشعر بالذبول سنة بعد أخرى". وإذا كانت نسرين تشعر في دبي أنها مذنبة لأنها تعيش حياة طبيعية، بينما أهلها (السوريون) يقتلون، فكارم على النقيض منها، لا تعنيه الحرب.

مع رواية (الحاجب - 2015) لوسيم الشرقي (ولد عام 1989)، يأتي الحفر في التاريخ السوري القريب عبر الشخصية المحورية الطيب بو محسن، وهو الجزائري الذي اقتيد من الجزائر إلى دمشق في عداد جيش الشرق الفرنسي. وفي المرحلة الممتدة من عام 1940 إلى 1958 ترصد الرواية اندماج الجزائري في المجتمع الدمشقي، وزواجه من سنية، وبقاءه في دمشق بعد رحيل المستعمر الفرنسي.

يُثقل على الرواية أسلوب اليوميات عندما تبلغ ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين. وعلى الرغم من أنها تبدأ وتنتهي في عام 2014، يظل خافتاً صدى ما كان منذ عام 2011. وليس الفارق في ذلك كبيراً بين (الحاجب) وبين الرواية التي تلتها (أسود - 2018) والتي تتمحور حول شخصية الخياط أحمد أسود (أبوه مسلم وأمه مسيحية)، وتبدأ منذ مطلع القرن، وتتمفصل على عمل أحمد في معمل الخياطة، وعلاقته بنسرين التي تلون حياته بالمسرح وبالثقافة، لكن سفرها إلى أمريكا في منحة دراسية، وإغلاق معمل الخياطة، وموت والدته، وما وقع في البلاد منذ عام 2011، دفع بأحمد أسود إلى الهرب إلى استنبول.. وإذا كانت النجاة من ملاحقة النظام هوّنت عليه، إلا أن ما حمله من سورية وحياته في استنبول دفعا به إلى الانتحار على أحد جسور الانتحارات على مضيق البوسفور.

لتحديد سن الشباب إكراهاته. فنحن الآن في سنة 2025، ومن الكتاب الشباب من كتبوا رواياتهم قبل الأربعين التي تجاوزوها الآن. ومن هذه الروايات ما تألق متخففاً من ضغط السياسة والزلزلة الروحية والاجتماعية (وادي قنديل لنسرين أكرم الخوري، مثلاً). وكذلك (موسم سقوط الفراشات) لعتاب أحمد شبيب و(الخائفون) لديماونوس ونغم حيدر صاحبة (أعياد الشتاء – 2018) التي تصور في مخيم أجنبي للجوء مكابدات شاهيناز التي كانت عشيقة ضابط أمن انقلب عليها بعد مقتل ابنه بكمين، وراوية التي خطف الأمن والدها. ولها (معارك جاسرة) 2022

ولكي لا تبدو الصورة كالحة أو مشوشة، أسارع إلى غرر الروايات التي صدرت منذ مطلع هذا القرن، وبخاصة بعد 2011، وكتبها من بدأن أو بدأوا أو واصلن أو واصلوا الكتابة بعد الأربعين: خيري الذهبي وممدوح عزام وشهلا العجيلي وخليل الرز وخالد خليفة وسوسن جميل حسن ومها حسن وأسماء معيكل ونجاة عبد الصمد وريما بالي وخليل صويلح وابتسام التريسي وغسان الجباعي وهيثم حسين ومنذر بدر حلوم ومحمود حسن الجاسم ومحمد طه العثمان وحسن صقر...

***

من التجارب الروائية الشبابية المهمة واللافتة أيضاً، أسارع إلى باقة من الروايات التي أحسبها مميزة، من عدد من البلاد العربية. وأبدأ برواية (الفسيفسائي - 2023) للكاتب المغربي عيسى الناصري (ولد عام 1985) التي اشتبكت فيها أزمنة وثقافات وحيوات ومخطوطات روايات. فمن رواية جواد الأطلسي (الفتى موري) إلى مذكرات الدكتورة نوال الهناوي إلى رواية (وليلي) للأمريكية أريادنا نويل، ينهض بناء متراكب ومعقد ومشوّق في آن. وجوهرة الرواية هي (الفسيفساء) تاريخياً ورموزاً.

في متاهة الفسيفساء يحضر الروائي جواد الأطلسي مرشداً مع معشوقته أريادنا نويل الباحثة الأمريكية في الآثار، والتي تروي رحلتها بحثاً عن لوحة فسيفساء مفقودة، وتلقى مصرعها، فتراها في فوليبيليس الأثرية حيث المتاهة. وأريادنا هي التي ستكشف سر لينا توميان في تكليف جواد كتابة رواية عن (وليلي) ومصرع حارستين أمريكيتين. والأهم في كل ذلك هو ما يكتبه جواد عن الفتى الموري الذي يعمل عند خباز فنجار فحداد يحاول اغتصابه، قبل أن يعمل عند فلافيوس الذي يزرع فيه الشغف بالفسيفساء، فيتأجج إبداعه ليصير الفسيفسائي الذي تسحره سيلينا، ويخصيه الجنود الرومان.

لا تفتأ رواية (الفسيفسائي) تنهب الزمن ما بين الموريين (البربر)، وثورتهم على الرومان في موريتانيا الطنجية وعاصمتها فوليبيليس، واستيلاء الرومان على (وليلي) وطرد الموريين، قل من 180 ق.م إلى 1994 م. عبر ذلك يتّقد تسريد تاريخ الفسيفساء وتتلغّز متاهتها. ولكن الرواية الأولى لصاحبها، والتي تشبه تهراً سردياً متدفقاً لا تعدم ما لعله هنات. ففي مذكرات الطبيبة النفسية نوال حول مريضها وعاشقها تهامي، والتي تروي بصوتها كما بصوت السارد العليم، نراها تعرف وهي مديرة لظهرها، أن تهامي رسم ابتسامة على شفتيه وهو يحرك رأسه بحركة مقتضبة. ومن هذا القبيل أن نقرأ في رواية جواد أن الشمس تميل عن كبد السماء في العشي، فنكشف فيالق الرومان، وتُرى سحابة تعانق السماء، فما الذي أضاء (العشي)؟ وهل الميل عن كبد السماء يكون إذن في العشي أم في العصر أم في المغيب؟

***

ونمضي إلى رواية (مقامرة على شرف الليدي ميتسي - 2023) للكاتب المصري أحمد مرسي (ولد عام 1992). والتي تحفر في تاريخ القاهرة والفضاء البدوي، فتتقد فتنة المشهديات وفرادة وحيوية الشخصيات.

من جزيرة سعود موطن البدو الطحاوية تأتي شخصية فوزان الطحاوي، ابتداءً بموته عجوزاً نكرة، وارتجاعاً إلى فتوته التي تسطع مع الفرس شمعة، حين يحضر الضابط المسرّح سليم حقي مع سمسار رهانات سباق الخيل مرعي المصري إلى المقام البدوي، ليشتري مرعي المهرة البيضاء الأسطورية، فلا يفارقها ابن الرابعة عشرة فوزان. وفي قاهرة العشرينات من القرن الماضي يأتي الرسم الروائي البديع لمباريات الديكة التي يخوضها الضابط المفلس، ولخوض المهرة شمعة وفارسها الفتى فوزان مباريات السباق. وتنشب الخيوط الروائية التي يُحكم الكاتب اللعب بها: أسرار وكواليس سباق الخيل، تاريخ بناء حي مصر الجديدة، الإنكليزية الليدي ميتسي التي يعشقها مرعي، وتعشق هي سليم بينما يتردى هذا الضابط من مرض زوجته إلى إفلاسه.. وفي غمار العلاقات - صراعاً وتآمراً وعشقاً وصداقة - يتقد الجذر الإنساني وتتقد الطبيعة في العلاقة بين الفتى فوزان ومهرته شمعة. ولا تغفل العين الروائية عن أيّ من الخيوط الروائية وتفاصيلها اللاذعة: مأساة الليدي ميتسي بفقد ابنها وبعشقها وبخيبتها في حبها وعرضها على سليم الزواج والرحيل إلى لندن، الجذر النظيف في شخصية السمسار كما يكشفه حبه لزينب التي حرقت نفسها، أو صراعه مع خليل بِك الذي يتآمر على المهرة شمعة، نجاة سليم حقي من القتل، عودة الفتى فوزان بمهرته إلى الموطن البدوي... إلى آخر الترجّح بين قاع المجتمع وعلّيته، والنبض الإنساني والتاريخي العميق.

ومن مصر أيضاً هي ذي رواية (سنوات الجري في المكان - 2022) للكاتبة المصرية نورا ناجي (ولدت عام 1987). وينهض فيها البناء مركباً ومعقداً أيضاً، فيما تتوهج فتنته. ففي الرواية نص مسرحي (قرابة خمسين صفحة) لأحد شخصيات الرواية: يحيى الصاوي، ومداره الأكبر هو ما بين هذا الشاعر والطبيب النفسي. وفي الرواية نص روائي (قرابة خمسين صفحة أيضاً) ينكتب، قل: مشروع روائي يولد في الرواية الأم، تكتبه إحدى شخصيات الرواية: نانا عبد الوهاب. وفي هذا النص تعريف بشخصيات الرواية الأم التي تبدأ بفصل ينادي الفن التشكيلي ويقدمه الفنان سعد البيومي، ويتعلق بالألوان السبعة، ولكل لون عتبته - للرمادي عتبة فاتنة - وصدمته للقراءة. فالأرزق هو لون الدم الذي يؤشر إلى ثورة يناير 2011 في مصر، حيث اصطرعت قنابل الغاز مع الكمامات. والبرتقالي يقيم في لوحات سعد الذي يريده خلفية لمعرض له، لكن نانا عبد الوهاب التي درست الديكور تعترض. والرمادي لون المتناقضات، والأحمر يوم جمعة الغضب - من أيام يناير والثورة حيث تساقط القتلى وسقط سعد البيومي، وصولاً إلى الأسود لون الأغاني الحزينة، وفيه يتحدث سعد البيومي عن مها في أول معرض له - سيتزوجان - وعن شهوره الثلاثة في تحقيق الأمن معه.

يأتي الفن التشكيلي في رواية (سنوات الجري في المكان) تعزيزاً للتفاعل المتنامي والعميق بين الرواية العربية والفنون: الموسيقى، السينما، الفن التشكيلي، وبدرجة أدنى: المسرح.

يبدأ الفنان سعد البيومي الرواية بمشروعه (الجري في المكان)، وهو مشروع تفاعلي متعدد الوسائط. والمعرض الأول لسعد البيومي، وعنوانه (30 يوم جري في المكان) يعطي للرواية عنوانها. وقد قضى والد سعد غرقاً، ورفضت أمه التعويض عن الغريق بخمسة آلاف جنيه، فصار مشروع سعد وصديقه الفنان مصطفى البحث عن ضحايا السفينة الغارقة في البحر الأحمر. لذلك تعلّما الغوص، وغاصا، وصوّرا السفينة، وكان لسعد حذاء أبيه في قعر البحر، ونظم الغواصان الفنانان معرضاً لما جمعا من صور السفينة.

بعد الألوان، للأصوات فعلها الروائي، حيث يتواصل السرد متعنوناً بعنوان معرض لمصطفى هو: الانتباه إلى الصوت. ومصطفى المسكون بقتل سعد، تفتر علاقته بنانا عبد الوهاب، ويتزوج من علا، ويواجه والده الكاتبَ الذي اعتزل الأسرة، ويأتي كل ذلك فيما السرد يمضي من صوت المترو إلى صوت الرسائل إلى صوت الأغاني إلى صوت الهتاف، ومصطفى يسافر إلى لندن وموسكو، ويستعيد يومياته في ثورة يناير، والبؤرة دوماً هي مصرع سعد الذي يفجر السرد فيما يكتب عن حياته وميتاته الأخرى بعد مصرعه، وليس هذا وحده ما للموت في الرواية. فتحت عنوان (كل القطط ميتة)، تأتي يوميات الطبيبة ياسمين السيد والتي تتواصل من 2018 إلى أن تقضي ياسمين في الكورونا سنة 2020. وما أودى بياسمين فشلّ كيانها هو أنها صمتت عندما كتب الأطباء تقريراً بموت سعد البيومي جرّاء كسر في الجمجمة، وليس قتلاً في ميدان التحرير. وبينما تهاوت، طلقها زوجها يحيى الصاوي الذي ما عاد يشمّ بعد مصرع سعد إلا رائحة دمه. وللروائح حشدها في الرواية، كما للموت.

تنضاف الميتا رواية في رواية نورا ناجي عبر مشروع نانا عبد الوهاب كتابة رواية، إلى تفاعل الفن الروائي مع الموسيقى والغناء - تذيلت الرواية بثبت للأغاني التي جاءت فيها - والفن التشكيلي والمسرح. وبكل ذلك كان للرواية وسمها المميز في التجريب وفي الحداثة الروائية.

***

من السعودية هي ذي رواية (عين الحدأة - 2023) للكاتب صالح الحمد (ولد في 1989) التي ترصد ثلاثين يوماً من حياة شخصيتها المحورية (وائل) منذ صدور الحكم عليه بالإعدام إلى موعد التنفيذ. ويتدرج البناء الروائي في الأيام الثلاثين (15 يوماً – 48 ساعة – 24 ساعة – 12 ساعة...) حتى يبلغ الساعة الأخيرة، فيتناول وائل حبة السيانيد التي يسّر تدبيرها صديقه السجين أيضاً فيصل. وفي هذا التدبير، كما في مظانّ أخرى، تعري الرواية ما في عالم السجون من سوءات.

يتناوب في بناء الرواية زمن السجن مع زمنين آخرين، أولهما زمن الرصافة التي يقع السجن جنوبها، وهي موطن وائل في السعودية، حيث نشأ وتعلم وأحب أمل، وزمن كاليفورنيا حيث كانت دراسته الجامعية. وقد حملت كل قطعة سردية لعالم الرصافة رقماً، كما حملت نظيرتها لعالم كاليفورنيا رقماً. وبذلك، مع تدرجات زمن السجن نحو النهاية، كان للرواية تنضيدها أو هندستها التي شبكت أحداثها وسرودها.

جمعت الدراسة الجامعية في أمريكا بين وائل وابنة الرصافة غادة. وثمة جمع الحب بينهما، لكن غادة عادت قبله، وتزوجت. ولما عاد هو تواصلا، وكانت تعدّ للطلاق، حتى إذا انقطعت عنه، ومضى إلى منزلها، وجدها صريعة، لكن التهمة لبسته. وفي هذا السياق كان للرواية لسان التحقيق، وبخاصة في مسار المحاكمة والسجن، كما كان لها في الجامعة لسان مميز، بل ومتعدد، من العاشقين وائل وغادة إلى مارغريت أستاذة وائل... وهذا التمايز يظهر أيضاً في السجن سواء لإدارته أم للسجناء الذين يحتك بهم وائل. وكان للنصيب الكبير للحوار في الرواية دوره الأكبر في توفير السلاسة للسرد. وعلى الرغم من ذلك ربما نالت التفاصيل عبر 664 صفحة من طلاوة السرد بقدر أو آخر. وبالتالي، يأتي السؤال عما إذا كان الاقتصاد ممكناً وضرورياً.

***

بالمضيّ إلى تجربة مختلفة في رواية (أشياء – 2022) للكاتبة التونسية سمر سمير المزغني نجد أنها اختارت شخصياتها من الأشياء المتراكمة في مستودع الأب، كما تجلو خاتمة الرواية. وهي أشياء عتيقة معطلة وتافهة، يحكي كل منها حكايته في السهرات، وقد طلب الهاتف من الأشياء الخمسة أن تصطف وتحكي ما ستكون الرواية حكاياتها، ابتداءً بالكرة الزجاجية، وهكذا تكون خاتمة الرواية قد استدارت إلى البداية.

تُخرٍج العرافة الكرة الزجاجية من عزلتها في الصندوق. وتستعرض الكرة المجتمع البائس المتعلق بها وبالعرافة (مثلاً: طفلة تشكو بلغة الكبار المتفقهين - سلطة السارد - عزلة أفراد العائلة عن بعضهم). وتهرب الكرة الخائفة من العرافة إلى الطفلة إيناس التي تسأل الكرة عن اختفاء أخيها أيمن، وعزلة أخيها علاء، وهذا ما ستتولاه الفصول التالية مع أشياء أخرى.

ففي فصل زجاجة النبيذ تأتي أسطورة أيمن الذي جاب الدنيا باحثاً عن الحقيقة، ولما عاد خائباً وجد بلدته يباباً، فاعتزل مع الزجاجة التي ستروي أنها إيطالية جاءت بها إلى والد أيمن صديقته التي ستفتن أيمن. كما تروي الزجاجة حكاية جدتها الزجاجة التي كسرت نفسها انتقاماً ممن سخر منها. وعبر قصة استعداد أيمن للسفر إلى أمريكا بعد البكالوريا، ووقوعه في الحب، وصدّ الفتاة له، تطلق الزجاجة حكمتها: الحب وحده يهزمنا.

في فصل (حبوب منومة) تحكي الحبوب المخدرة حكاية الأم سلوى معلمة الموسيقى التي تسبح وهي تستعيد سيرينادة شوبيرت ابنةً وزوجةً وأماً، كما تستكمل الحبوب قصة أيمن الذي ما عادت زجاجة النبيذ ترويه، فمضى إلى الحشيش، بينما سافر أخوه علاء إلى اليابان. ويتولى الموبايل في الفصل التالي سرد قصة علاء هناك ومنها علاقته بالمدمنة على الموبايل هاروكا. وفي فصل (قلم حبر) يسرد قلم الأب ذكرياته مع طالبة الرياضيات، وزواجه من سلمى، حيث تأتي رسالتها إليه بأسلوب مميز وشائق. وفي قصة الأب أنه يفصل من عمله بعد الثورة التونسية فيزداد هوسه بالأشياء. وبذا تبلغ الرواية ختامها، وتنتهي لعبتها في أنسنة الأشياء، وتعرية النفوس والمجتمع عبر ذلك.

***

لعل ضغط التحولات الكبرى على التجارب الروائية الشبابية قد تبدى في الحالة السورية. لكن هذا الضغط ليس وقفاً على هذه الحالة. ولئن كان القول هنا قد تابع من الحالة السورية إلى نماذج روائية من المغرب وتونس ومصر والسعودية، فمن المهم التدقيق فيما بدا المنجز الروائي الشبابي من الجدية في التجريبية، ومن التألق في البناء المركب، وديناميكية الشخصيات، والتفاعل مع الفنون، والحفرية الروائية في عتمات ووضحات التاريخ وفي الجسد الاجتماعي. وهذه الخلاصة الختامية لا تتأسس فقط على النصوص السبعة التي قمت بتحليلها هنا، فثمة ما سبق أن قمت به من دراسة عشرات الروايات الشبابية من مختلف البلاد العربية، عدا عن عشرات أيضاً من الروايات لغير الشباب.